أعلان الهيدر

الخميس، 10 يوليو 2025

الرئيسية سماءٌ سقطت من حضني": السماء تأبى العلو…

سماءٌ سقطت من حضني": السماء تأبى العلو…



تقديم: مثال سليمان 


سردية الحلم حين ينهار من الداخل

- العنوان/ العتبة الأولى لمداخل النص:

تحمل رواية “سماء سقطت من حضني” -للكاتب ماهر حسن الصادرة عن ( دار النخبة، ٢٠٢٣)- عنوانًا يثير الدهشة والأسى في آنٍ معًا. هو عنوان ينهض على مفارقة شعرية مشحونة: كيف للسماء – هذا المطلق، الرحب، الحالم، الحامي – أن تسقط؟ وكيف يكون الحِضن، هذا الموضع الصغير والآمن، مهدًا لها قبل أن تنهار؟

العنوان يُخاتل القارئ منذ الوهلة الأولى، ويضعه في مواجهة سقوط الحلم من الحميمية إلى الفاجعة، من اليقين إلى الصدمة. فـ”السماء” هنا، بمعانيها الرمزية المتعددة (الأمان، الحلم، الحبيبة، الأم، الوطن، الإيمان)، لا تظل معلّقة فوق الرأس، إنما تنحدر كجرحٍ داخلي، يسقط في “الحضن”، حيث لا مكان بعدُ للحماية. إنّه تعبير سردي مكثّف عن تجربة الفقد الكلي، والانهيار العميق الذي يصيب الإنسان حين يغدو كل ما وثق به عبئًا منكسِرًا في قلبه.

-بين السيرة والتخييل: دلجان وتجربة الجيل المحطّم:

تقع الرواية في 135 صفحة، مقسّمة إلى ستة فصول متلاحقة، منتهية بخاتمة موجزة، تسير على خط سردي زمني متصل، بلا تقنيات استرجاعية (فلاشباك)، وهو ما يضفي على النص حالة من اللهاث السردي المتناغم مع واقع الحرب، الذي لا يترك لأبطاله فسحة تأمل أو تراجع.

بطل الرواية “دلجان”، طالب الطب الكردي، يُجسّد حالة فردية كثيفة، لكنها مرآة لجيلٍ كامل من السوريين، ممن وجدوا أنفسهم فجأة في قلب زلزال الحرب، حيث الهويّة تهمة، والحلم جرم، والحبّ مؤجل إلى إشعار غير معلوم.

يتحوّل دلجان، في لحظة عبثية، من طالب جامعي إلى معتقل في صيدنايا – أحد أكثر المعتقلات السورية وحشية – لمجرد رفضه الإهانة على حاجز أمني. هناك، يمضي سبع سنوات من عمره في العتمة والعذاب، ويشهد على انهيارات الآخرين كما ينهار هو، ما يجعل الرواية تنتمي بوضوح إلى أدب السجون، لكنها لا تتوقف عنده.

-الحبّ في زمن المستحيل: جاني كوجهٍ آخر للسماء:

قبل الاعتقال، كان دلجان قد تعرّف إلى “جاني”، الطالبة القادمة من كوباني، لتنشأ بينهما علاقة حبّ صامت، يتردد كل منهما في الاعتراف بها. ومع تصاعد الأحداث، يُفرَقان قسرًا: جاني تعود إلى كوباني، ودلجان يُعتقل، ويخرج بعدها إلى وطنٍ لم يعد هو ذاته.

حين يحاول دلجان استعادة خيط الحياة بعد خروجه، يبدأ رحلة البحث عن الحبيبة، ليجدها لاجئة في عفرين بعد فقدان عائلتها في هجوم داعش على مدينتها. يلتقيان مجددًا، لكن هذا اللقاء لا يطول، إذ يقرران خوض مغامرة الهجرة، تلك المغامرة التي يختبرها آلاف السوريين يوميًا، بحثًا عن سماء أخرى، عن حضنٍ جديد.

يغرق قارب الهجرة في بحر إيجة، وتغرق جاني معه، ليعود دلجان إلى نقطة الانكسار الأولى: السماء تسقط من جديد، وهذه المرة لا تسقط كرمز، بل كفقدٍ ملموس لحبٍ لم يكتمل.

-من السقوط إلى الترميم: الطفلة التي أنقذها البحر:

لا ينتهي النص عند حدود الفاجعة. بل، من قلب المأساة، ينبثق خيط خافت من الضوء. دلجان، الناجي الوحيد من القارب، يعثر على طفلة فقدت أمها في نفس الرحلة. يتبناها، ويحملها معه إلى ألمانيا، ليس فقط كنوع من النجاة الأخلاقية، بل كفعل رمزي لإنقاذ ما تبقى من إنسانيته.
-أخذتها في حضني وبكيت حظنا المشؤوم:
"لا تخافي ياصغيرتي، سوف نكمل رحلتنا معاً في هذه الحياة" صـ ١٣٢
إن تبنّي الطفلة هنا ليس مجرد حدث عابر، بل منعطف وجودي: دلجان، الذي فقد الأم والحبيبة والوطن، يُعيد تشكيل ذاته عبر حضن جديد – هذه المرة، هو الذي يمنح السماء ولا ينتظرها. وكأن الرواية تقول: النجاة لا تأتي من خارجنا، بل من قدرتنا على مواصلة الحياة رغم الألم.

-شخصيات وجغرافيا مشتتة: صورة سوريا الممزقة:

تحضر في الرواية شخصيات أخرى تُثري السياق الرمزي والتاريخي. فـ”ماريا”، الأرمنية العجوز، التي يسرد لها دلجان حكاياته، تمثّل ذاكرة المأساة الممتدة من المجازر العثمانية حتى نكبة الحاضر، بينما يقدّم “قيس”، الشاب العربي، صورة للآخر السوري الذي لم يُفسده الاصطفاف السياسي أو الطائفي. يُفتح النص على أفق تأملي عميق، لا يخلو من رمزية في التعدد والتعايش السوري الضائع، والذي تحاول الرواية أن توثقه من خلال فسيفساء الشخصيات: دلجان، جاني، قيس، ماريا وغيرهم.

تنتقل الرواية بين فضاءات جغرافية متعددة: حلب، كوباني، قامشلي، عفرين، تركيا، ألمانيا… لكنها لا تغرق في توصيف المكان، بل تجعله خلفية باهتة لألم لا يعترف بالحدود. فالمكان هنا، كما الزمان، مجرد سياق لسقوط المعنى، ولبحث الإنسان عن ذاته وسط الركام.

-في قلب الأدب الإنساني: الحكاية باعتبارها مقاومة:

تتجاوز رواية سماء سقطت من حضني الإطار الضيق للروايات السياسية أو التقريرية. هي رواية عن الحرب، نعم، لكنها في جوهرها رواية عن الإنسان حين يُنتزع من شرطه الآمن، ويُدفع إلى أقصى درجات التمزق. فيها حضور خافت للحب، عميق للفقد، وكثيف للنجاة، لكنها تكتب كل ذلك بلغة سردية متقشفة، خالية من الزوائد، ومشحونة بالتوتر الداخلي.
"أنا رجل أجهل ما يؤلمني وأعرض نفسي على المرض، فلا أتعالج ليزداد الألم أكثر فأكثر، رغم الإفراط في امتلاك الإدراك، علة حقيقة ومرضية تامة ألتمس من الحياة الصفح وأنا أواسيها ساخراً"صـ١١١

لا تحاول الرواية الوعظ أو الخطابة، إنّما تسرد، ببساطة جارحة، كيف يُمكن لحلم أن يتحول إلى منفى، وللسماء أن تسقط من حضنٍ لم يعد يملك حتى نفسه.

-ختاماً: شهادة جيل في عين العاصفة:

في محصّلتها -تنتمي سماء سقطت من حضني- إلى أدب السجون والهجرة والحرب، لكن الأهم من ذلك أنها تنتمي إلى أدب الشهادة –  بمعناها التوثيقي كما بوصفها محاولة لتفسير الكارثة عبر الفن. هي كتابة مشروطة بالألم، لكنها لا ترتهن له، وتحمل في طيّاتها أسئلة معلّقة عن الوطن، والهوية، والحب، والمعنى.

إنها رواية جيلٍ مزقته الحرب، لكنّه لا يزال يبحث عن سمائه – ولو عبر طفلة نجاها البحر، أو ذاكرة عجوز، أو حتى عبر الكلمات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Neda - Pal