الدمار في غزة بين تعويضات المجتمع الدولي وإعادة الإعمار المؤجلة
لم تعرف غزة، تلك الرقعة الصغيرة المكتظة بالبشر على شاطئ المتوسط، سلامًا حقيقيًا منذ عقود. لكن الحرب الأخيرة تجاوزت كل حدود التصعيد المعتاد، وحولت آلاف المباني إلى ركام، وخلّفت مشهدًا مروعًا من الدمار الشامل الذي طال البيوت والمستشفيات والمدارس والمساجد والبنية التحتية الأساسية.
كانت النتيجة مدينة منكوبة بالكامل، يتجول أهلها بين الأطلال، يبحثون عن مأوى أو ذكرى منازلهم التي كانت ذات يوم تضج بالحياة.
مشهد ما بعد الحرب: مدينة بلا ملامح
أكثر من 300 ألف وحدة سكنية بين مدمّرة كليًا أو جزئيًا، بحسب تقديرات أولية صادرة عن مؤسسات محلية ودولية.
الصور القادمة من شمال غزة ومدينة خان يونس ومخيم النصيرات ترسم لوحة رمادية قاسية؛ أحياء كانت تضج بالحياة أُزيلت بالكامل من الخريطة.
منازل عائلات كاملة، شقق سكنية، متاجر صغيرة، مدارس ومكتبات ومساجد ومؤسسات مدنية، جميعها تحولت إلى كتل من الأسمنت المحترق.
حتى المباني التي صمدت نسبيًا لم تعد صالحة للسكن، إذ تعاني تصدعات خطيرة وانهيارات جزئية بفعل القصف العنيف.
وفي ظل غياب الكهرباء والمياه والمواد الأساسية، يعيش عشرات الآلاف من النازحين في مدارس وكالة الغوث (الأونروا) أو في خيام نصبت على عجل وسط مناطق الدمار.
حجم الخسائر الاقتصادية والعمرانية
قدّرت وزارة الأشغال العامة والإسكان في غزة الخسائر الأولية بأكثر من 10 مليارات دولار، تشمل البنية التحتية وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات والمباني العامة والخاصة.
كما تضررت آلاف المنشآت الاقتصادية الصغيرة، ما أدى إلى انهيار جزئي للاقتصاد المحلي الذي كان يعاني أصلًا من الحصار الممتد منذ أكثر من 17 عامًا.
وبحسب تقارير البنك الدولي، فإن إعادة إعمار ما دمرته الحرب قد تستغرق ما بين 7 إلى 10 سنوات على الأقل، في حال توفرت الموارد والدعم الدولي دون عوائق سياسية.
ملف التعويضات الدولية: الوعود أكثر من الأفعال
بعد انتهاء الحرب، تسارعت الدعوات إلى فتح ملف التعويضات الدولية ومساءلة إسرائيل عن تدمير المنشآت المدنية، خاصة أن القانون الدولي الإنساني يحظر استهداف المرافق غير العسكرية.
لكن رغم صدور عشرات التقارير من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، لم يُسجّل حتى الآن أي تحرك قانوني جدي يلزم الاحتلال بدفع تعويضات مباشرة للمتضررين.
المجتمع الدولي اكتفى، كما في كل مرة، ببيانات الإدانة والتعهدات المالية التي غالبًا ما تتبخر في دوامة البيروقراطية السياسية.
تتعهد بعض الدول بالمساهمة في صندوق إعادة الإعمار، لكن هذه التعهدات تبقى مشروطة باعتبارات سياسية، وتخضع لتجاذبات إقليمية ودولية معقدة.
إعادة الإعمار... مشروع مؤجل إلى أجل غير مسمى
تجربة غزة في إعادة الإعمار ليست جديدة؛ فقد سبق أن شُكّلت لجان وصناديق عقب حروب 2008 و2012 و2014، لكن معظم المشاريع تعطلت بسبب الحصار ومنع إدخال مواد البناء، إضافة إلى الخلافات السياسية الفلسطينية الداخلية التي عطّلت التنسيق والإشراف.
ويخشى الخبراء من أن يتكرر السيناريو ذاته، بحيث تبقى وعود الإعمار حبرًا على ورق، فيما يبقى سكان غزة رهائن الخيام والمنازل المهدّمة لسنوات.
ويقول مهندسون محليون إن عملية الإعمار تحتاج إلى خطة وطنية شاملة تضع أولويات واضحة:
إعادة بناء المساكن المدمرة كليًا.
ترميم المدارس والمستشفيات.
إصلاح شبكات المياه والكهرباء.
خلق فرص عمل مؤقتة للعمال والمهندسين لتسريع عجلة الاقتصاد.
الأمل في تدخل دولي عادل
يرى المراقبون أن تحقيق العدالة للمدنيين في غزة يتطلب تحركًا قانونيًا ودبلوماسيًا دوليًا جادًا، يربط بين التعويضات وإعادة الإعمار من جهة، ومحاسبة الاحتلال على جرائمه من جهة أخرى.
فمن غير المنطقي أن يدفع الضحايا ثمن إعادة بناء ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية مرة تلو الأخرى.
الأمم المتحدة مطالبة بإنشاء صندوق دولي ملزم للتعويض تشرف عليه جهة محايدة، يضمن وصول الأموال إلى مستحقيها دون تدخل سياسي أو وساطة من أطراف الصراع.
خاتمة: بين الركام ينهض الأمل
رغم كل شيء، ما زال في غزة نبض حياة.
يُعيد الأطفال رسم بيوتهم على جدران المخيمات، ويزرع الأهالي ما تبقى من أراضيهم على أنقاض المنازل.
فالمدينة التي دمرتها الحروب مرات عديدة، تعرف كيف تنهض من تحت الركام.
لكن هذه المرة، لن يكون النهوض ممكنًا ما لم يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته الأخلاقية والقانونية في تعويض الضحايا وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق