التاريخ- رقم 3.
Anuradha Ghandy
1954 – 2008
سلسلة "نساء غيّرن التاريخ" (3)
المقدمة
على مرّ التاريخ، لعبت النساء أدوارًا حاسمة على الصعيدين العالمي والمحلي. ناضلن من أجل الحقوق، شاركن في الحكومات، قدن دولًا، أبدعن في مجالات الفنون والعلوم، وألهمن أجيالًا متعاقبة. ورغم ذلك، كثيرًا ما جرى تهميش قصصهن أو تقليص أثرهن في السرديات التاريخية التي هيمن عليها المنظور الذكوري.
تأتي سلسلة "نساء غيّرن التاريخ" لتسلّط الضوء على نساء بارزات من مختلف السياقات: عالميًا، محليًا، وإقليميًا – من قائدات سياسيات وناشطات، إلى باحثات رائدات وشخصيات ثقافية مؤثرة، تركن بصمات لا تُمحى في مجتمعاتهن والعالم.
“لا يمكن أن نحرر النساء العاملات ونحن نخوض المعركة بعقلية ذكورية”
حين تقود امرأة النضال السري وتخوض العمل الفكري والميداني علي الارض الواقع ومع الجماهير، وتعيد صياغة النظرية النسوية من قلب المعركة الطبقية، فاعلم او اعلمي أنك أمام سيرة استثنائية. أنورادها غاندي لم تكن مجرد مفكرة، بل مناضلة ثورية حقا، لم يُكتب عنها كثيرًا بالعربية رغم دورها الفعال انذاك. تُعد أنورادها غاندي – أو أنورادها شامباغ – من أبرز الناشطات الشيوعيات في الهند المعاصرة، وإحدى الشخصيات النسوية الثورية البارزة في آسيا. لعبت دورًا محوريًا في تطوير الخطاب النسوي الماركسي، من خلال دمج النظرية بالممارسة، ومواجهة النظام الأبوي لا في المجتمع فحسب، بل داخل التنظيمات والأحزاب اليسارية نفسها، مقترحةً رؤية نسوية طبقية نابعة في الواقع الهندي.
في سياق اجتماعي واقتصادي معقّد كالهند، حيث تتشابك البنى الطبقية والطائفية والجندرية، برزت أنورادها كنموذج نادر لمناضلة ثورية حملت التزامًا مزدوجًا بقضية الصراع الطبقي والنضال النسوي، دون الفصل بينهما. وقد شددت باستمرار على أن تحرر النساء لا يمكن أن يُنجز إلا عبر تفكيك النظام الرأسمالي والأبوي بجذوره المتشابكة.
من الطفولة الشيوعية إلى قائدة شيوعية
وُلدت أنورادها شامباغ في مومباي عام 1954، ضمن أسرة شيوعية مثقفة؛ كان والدها محاميًا وعضوًا نشطًا في الحزب الشيوعي الهندي، بينما كانت والدتها ناشطة اجتماعية. أسهم هذا المناخ السياسي والثقافي في تشكيل وعيها منذ سنواتها الأولى، حيث انخرطت مبكرًا في العمل العام والنقاشات الفكرية، وأبدت اهتمامًا لافتًا بالفنون، مثل المسرح والرقص الكلاسيكي، مما منحها رؤية إنسانية عميقة ووعيًا -نقديًا مبكرًا بقضايا مجتمعها.
خلال دراستها الجامعية في كلية إلفنستون، دخلت أنورادها الحياة السياسية من بوابة الحركات الشبابية، لتجد نفسها سريعًا منخرطة في قضايا ملحّة، مثل المجاعات التي ضربت ولاية ماهاراشترا وأزمة اللاجئين البنغاليين، ما عمّق ارتباطها بقضايا النضال الشعبي وأكسبها حسًا ميدانيًا مباشرًا. هذه التجارب دفعتها لاحقًا إلى الانضمام إلى الحركة الماوية، حيث أسست فرع الحزب الشيوعي الهندي (الماوي) في ولاية ماهاراشترا، ثم ارتقت إلى عضوية لجنته المركزية.
لم يكن وعيها الطبقي منفصلًا عن إدراكها لتعقيدات البنية الاجتماعية الهندية. ففي كتابها "مسألة الطبقات في الهند"، تناولت غاندي العلاقة الجدلية بين الطبقة والطائفة، منتقدةً التبسيط الماركسي السائد الذي يعتبر الطائفة مجرد انعكاس للطبقة. وشددت على أن النظام الطبقي-الطائفي في الهند يُعد بنية متشابكة ومعقّدة، تتطلب تفكيكًا تحليليًا وميدانيًا عميقًا، في إطار مشروع تحرري يراعي الخصوصية البنيوية للهند.
النسوية الماركسية، تجاوز الفكر التقليدي الموروث
أحد أبرز إسهامات أنورادها غاندي الفكرية تمثّل في نقدها العميق للنسوية الليبرالية الغربية، وكذلك للممارسات الذكورية داخل الأحزاب اليسارية. في كتابها "الاتجاهات الفلسفية في الحركة النسوية" (2006)، قدّمت قراءة نقدية معمّقة للتيارات النسوية، موضحةً أن معظمها ينطلق من منظور برجوازي منفصل عن واقع النساء العاملات والكادحات في الجنوب العالمي. وقد دعت إلى تبني نسوية بروليتارية ترتبط عضوياً بالنضال الطبقي وتتحرر من النزعة الفردانية. لم يكن نقدها موجّهًا فقط للتيارات النسوية، بل امتد إلى اليسار نفسه. فقد انتقدت بشدة القيادات اليسارية التي تتجاهل اضطهاد النساء، وكشفت التناقض بين الخطاب الثوري الداعي الى المساواة والممارسات الذكورية داخل التنظيمات اليسارية. وكانت تُصرّ على أن تحرر المرأة لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن مشروع اشتراكي جذري يعيد هيكلة كل أشكال السلطة، بما في ذلك السلطة الذكورية.
ولم تكتفِ بالتنظير، بل نقلت أفكارها إلى الميدان. من خلال عملها في مناطق ريفية مثل دانداكارانيا وباستار، طبّقت أنورادها مبادئها الثورية عمليًا، فنظّمت النساء في تعاونيات زراعية ومجموعات نضالية، وسعت إلى دمجهن في عملية التغيير الاجتماعي من القاعدة. وقد وثّقت هذه التجربة في مقالها "الحرب الشعبية قد بددت تردد النساء في دانداكارانيا" (2001)، مؤكدةً أن العمل الثوري لا ينجح دون إعادة هيكلة العلاقات الجندرية داخل الحركة ذاتها.
أنورادها غاندي، حضور إنساني لا يقل ثورية عن فكرها
رغم انخراطها العميق في النضال السياسي والعمل السري، لم تفقد أنورادها غاندي أبدًا إنسانيتها الدافئة. كانت معروفة بين رفيقاتها و رفاقها بحسّها العاطفي والتزامها الشخصي العميق تجاه من تعمل معهم، خصوصًا النساء الكادحات في المناطق الريفية. لم تكن تنظّر من بعيد، بل حرصت على الإصغاء إلى قصص النساء وتجاربهن، وكانت تعتبر أن الحديث مع امرأة فقيرة لا يقل أهمية عن أي اجتماع حزبي وتنظيمي.
في علاقاتها الشخصية، تميّزت أنورادها بنوع من الحنان الصارم. زواجها من الناشط كوباد غاندي لم يكن فقط علاقة شخصية، وانما شراكة نضالية حقيقية امتدت لعقود. كانا يتنقلان معًا تحت أسماء مستعارة، يواجهان الملاحقة والاعتقال، ويقتسمان المسؤولية السياسية والوجودية لحياة مكرّسة لقضية جماعية. وقد وصفها أحد رفاقها المقربين بعد وفاتها قائلًا:
"كانت أنورادها تُقاتل بثبات لا يُشبه الصراخ، بل يشبه الصمت الذي يصنع الثورة. لم تكن تُهادن، لكنها كانت تُصغي."
ورغم ما تحمّلته من مشقة، لم تفقد القدرة على التساؤل والتأمل. كتبت مرةً في دفترها السري:
"أحيانًا أشعر أنني أحمل ثقل العالم على كتفيّ، لكنني أعود لأتذكّر: إن لم أكن أنا، فمن سيكون؟" هذا الجانب الإنساني من شخصيتها يكمل فكرها الماركسي والنسوي ويمنحه صدقًا نادرًا.
الحياة الشخصية والنهاية المبكرة
في عام 1983، عقدت أنورادها شراكة حياتية ونضالية مع الناشط الماوي كوباد غاندي، حيث جمعهما إيمان مشترك بقضية الثورة الاشتراكية. لم يكن زواجهما تقليديًا، بل اتخذ طابعًا سريًا متنقلًا، فرضته طبيعة التزامهما السياسي العميق، فتنقّلا بين المدن والأرياف تحت أسماء مستعارة، وتعرضا مرارًا للملاحقة والاعتقال.
واصلت أنورادها نشاطها الثوري الميداني في ظروف قاسية، حتى أثناء تدهور حالتها الصحية. وفي عام 2008، وأثناء وجودها في مدينة جوناغاد في سياق عمل تنظيمي، أصيبت بنوع نادر من الملاريا الدماغية. بسبب استخدامها لهوية مزيفة لمتطلبات النضال السري، تأخر تشخيص مرضها، ما فاقم حالتها بشكل خطير. وكانت في الوقت نفسه تعاني من مرض مزمن يُعرف بـ"التصلب الجهازي" ، وهو ما أدى إلى تدهور سريع في حالتها الصحية. رحلت أنورادها في 12 أبريل 2008، عن عمر لم يتجاوز الرابعة والخمسين، تاركةً خلفها أثرًا فكريًا وإنسانيًا لا يُمحى. وضلت في قلب المعركة، وفيةً لقضيتها حتى اللحظة الأخيرة.
إرثها وتأثيرها المستمر
تُعد أنورادها غاندي من أبرز المفكرات الثوريات في التاريخ السياسي الهندي الحديث، وقد خلّفت إرثًا فكريًا غنيًا لا يقتصر على التحليل النظري، وانما يتصل اتصالًا حيًا بالممارسة اليومية لقضايا الفقراء، والنساء، والطبقات المهمشة. تُدرّس أعمالها اليوم كمراجع أساسية في الكثير من الجامعات الهندية، ضمن مناهج الحركة النسوية والسياسات اليسارية، وتُعد نموذجًا للفكر الثوري القادم من الجنوب العالمي. كتاباتها تبقى شاهدًا حيًا على قدرة الفكر الثوري خارج المركز الغربي على إنتاج أدوات تحليلية نقدية تتجاوز حتى اليسار الغربي ذاته. إن إرثها يمثل حجر أساس لكل من يسعى إلى بلورة نسوية طبقية ثورية، منتمية إلى الجنوب، ومُتجاوزة للخطوط الحمراء التي رسمها النظام الأبوي والرأسمالي معًا.
أبرز مؤلفات أنورادها غاندي:
1. الاتجاهات الفلسفية في الحركة النسوية
(Philosophical Trends in the Feminist Movement)
يُعد من أبرز أعمالها، حيث تقدم فيه تحليلاً نقديًا للتيارات النسوية المختلفة مثل الليبرالية، الراديكالية، الماركسية، والوجودية. تسلط الضوء على كيفية تفاعل هذه التيارات مع قضايا النساء، خاصة في السياق الهندي، وتنتقد النزعة الغربية التي تتجاهل الطبقات الاجتماعية والواقع المحلي. تدعو إلى تبني نسوية بروليتارية ترتبط بالنضال الطبقي وتحرير المرأة من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
الناشر: Foreign Languages Press
2. كتابة التغيير: مختارات من كتابات أنورادها غاندي
(Scripting the Change: Selected Writings of Anuradha Ghandy)
مجموعة من مقالات ومحاضرات تتناول موضوعات متعددة مثل الفاشية، الأصولية، البطريركية، وقضايا الطبقة والمرأة. يعكس الكتاب التزامها العميق بقضايا العدالة الاجتماعية والتغيير الاشتراكي، والنضال من أجل حقوق النساء والفئات المهمشة.
3. مسألة الطبقات في الهند
(The Caste Question in India)
ينتقد هذا العمل التفسير الماركسي التقليدي الذي يرى أن "الطبقة هي الطائفة"، مشيرة إلى أن هذا التبسيط يتجاهل تعقيدات النظام الطبقي الهندي. تدعو إلى فهم أعمق للعلاقة بين الطبقة والطائفة، وتؤكد على ضرورة معالجة قضايا الطائفة بشكل مستقل ضمن النضال الطبقي، انطلاقًا من خصوصيات المجتمع الهندي.
المراجع:
· Ghandy, Anuradha. Philosophical Trends in the Feminist Movement, Foreign Languages Press, 2006.
· Anuradha Ghandy
https://en.wikipedia.org/wiki/Anuradha_Ghandy
· PHILOSOPHICAL TRENDS IN THE FEMINIST MOVEMENT ANURADHA GHANDY
https://www.marxists.org/archive/gandhy/2006/philosophical-trends-in-feminist-movement-2nd-printing.pdf
· Book Review: Philosophical Trends in the Feminist Movement by Anuradha Ghandy
https://ins-ph.medium.com/book-review-philosophical-trends-in-the-feminist-movement-by-anuradha-ghandy-a92541f781b0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق